فصل: الطرف الأول في الابتداءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الرابع عشر فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم:

والرسم فيه أنه إن كان الجواب صادراً عن ملك، فالتعبير عن الملك بنون الجمع، وخطاب المكتوب إليه بالكاف. وإن كان عن بعض أتباع الملك إليه، فالتعبير عن المكتوب عنه بالخادم، أو العبد، أو المملوك ونحو ذلك، ومخاطبة الملك بما تليق به مخاطبة الملوك. ثم الجواب تارة يكون الابتداء فيه بنفس ورود المكاتبة، وقد تقدم في مثل ذلك في الكتب الصادرة عن الخلفاء أن المكاتبة يبتدأ فيها بلفظ عرض. أما الأجوبة المتعلقة بالملوك فإنه يقال فيها بدل عرض: وصل، أو ورد، أو نحو ذلك.
ثم هي على ضربين:

.الضرب الأول: الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم:

وفيه ثلاث جمل:
الجملة الأولى في الأجوبة الصادرة عن ملوك المشرق:
وفيه أسلوبان:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابنا ووصل كتابك:
ويذكر تاريخ الكتاب، ويشار إلى ما فيه، ثم يؤتى بالجواب إلى آخره، ويختم باستماحة الرأي في ذلك الأمر؛ كما كتب أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة إلى حاجب الحجاب أبي القاسم سعد بن محمد، وهو مقيم بنصيبين على محاربة باد الكردى.
كتابنا، ووصل كتابك مؤرخاً بيوم كذا، تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ورأيك: من رد باد الكردي عن الأعمال التي تطرقها، وحدث نفسه بالتغلب عليها، وتصرفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتردد بين أخينا وعدتنا أبي حرب زياد بن شهرا كويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيفه، ومقاماتك في حص جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريق بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إياه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السوم إلى الاقتصار وعن السرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص إلى الإذعان. وأن الأمر استقر على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة؛ واستعيد إلى الطاعة، واستضيف إلى الجماعة، وتصرف على أحكام الخدمة، وجرى مجرى من تضمه الجملة؛ وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة والأيمان المغلظة، وجدت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده، وضربت عليها حدوده؛ وفهمناه.
وقد كانت كتب أخينا وعدتنا أبي حرب زياد بن شهراكويه مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إياه؛ فنعرف من ذلك حسن أثرك وحزم رأيك، وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها؛ وما عدوت في مذاهبك كلها، ومتقلباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنا؛ ولا خلت كتب أخينا وعدتنا أبي حرب من شكر لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقة بك، والموالاة اللازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب من مثلك، ولا يستكثر ممن حل في المعرفة محللك؛ ولئن كنت قصدت في كل نهج استمررت عليه، ومعدل عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حد، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إياك، وارتضائنا ما كان منك، المنة عليه إذ سكنت جاشه، وأزلت استيحاشه؛ واستللته من دنس لباس المخالفة، وكسوته من حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه؛ حتى هأبوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محموداً وعند أخينا وعدتنا أبي حرب مشكوراً، وعلى هذا الرجل ماناً، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثاباً مأجوراً؛ وإياه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار راياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعاً أو كرهاً، وسلماً أو حرباً؛ فلا يخلو أحد منهم أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منة عفو؛ إنه جل ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير. ويجب أن تنقذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكردي إن كنت لم تنفذها إلى أوان وصول هذا الكتاب: لتكون في خزائننا محفوظة، وفي دووايننا منسوخة؛ وأن تتصرف في أمر رسله وفي بقية إن كانت بقيت من أمره على ما يرسمه له عنا أخونا وعدتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعته بأخبارك وأحوالك؛ وما يحتاج إلى عمله من جهتك موفقاً، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: وصل كتابك:
والأمر في ترتيبته على نحو ما تقدم في الأسلوب الذي قبله.
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة أيضاً إلى أبي العلاء عبيد الله بن الفضل في جواب كتابه الوارد عليه بالظفر بأهل الاقتباس ما صورته:
وصل كتابك- أدام الله عزك- المؤرخ بوقت الظهر من أمسنا وهو يوم كذا، تذكر ما سهله الله لك، وأجراه على يدك، وبيمن تدبيرك، وبركة خدمتك: من الإيقاع بالعصاة أهل الاقتباس، وإذاقتهم وبال ما كانوا عليه: من خلع الطاعة، وشن الغارة واستباحة المحارم، وارتكاب العظائم؛ وإثخانك فيهم قتلاً وأسراً، وتشريداً وتشتيتاً؛ وفهمناه وحمدنا الله عليه، وشكرنا ما أولى فيه، وحسن منا موقع أثرك، وتضاعف فيه جميل معتقدنا فيك ولك، وارتضينا فعل الأولياء في الخفوف إليه، والمناصحة فيه؛ وسبيلك أن تبحث عن أموال هؤلاء القوم وتثمرها، وتستدركها وتحصلها، وتكتب بما يصح منها؛ وتتقدم بقص أثر الهاربين حتى تلحقهم بالهالكين، وتشيع الرهبة في سائر شقي الفرات، وتتوخى طوائف الأشرار والخراب، ومخيفي السبل والساعين في الفساد بالتتبع لهم ووضع اليد عليهم؛ فإن بحسب النكاية في أهل الجهل والدعارة سكون أهل السلامة والاستقامة؛ فرأيك في العمل بذلك والمطالعة بما يوفقك الله له مستأنفاً من مثل هذا الفعل الرشيد، والمقام الحميد؛ وبسائر الأمور التي ترى عينها وتحتاج إلى معرفة مجاريها، موفقاً إن شاء الله تعالى والسلام.
الجملة الثانية في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم:
والذي وقفت عليه من أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ: وصل.
كما كتب بعض كتاب الدولة الفاطمية عن بعض وزراء الحافظ إلى أمين الدولة زنكي كشنكين ما صورته: وصل كتابك أيها الأمير الأجل الدال على مصالحته، المعرب عن مناصحته، الشاهد له بمؤثل الخطوة والأثرة، والموضح من أفعاله وخلاله ما لم تزل قضيته مرتسمة في النفوس مصورة؛ وعرضنا ما اقترن به من مطالعة المقام المقدس النبوي الحافظي- ضاعف الله أنواره، وشاد مناره، وأعز أشباعه وأنصاره- وشفعناه من الثناء على الأمير الاسفهسلار بما لم تزل عادتنا جارية به مع من نعلم طاعته، ونتحقق مشايعته، ونرى باطنه يضاهي ظاهره، وسره يوافق علانيته؛ ووقفنا على ما أنهاه من حال الفرنج المشركين المعلونين، وما كان من نعم الله تعالى من الظفر بهم، والإدالة منهم، والخفض من منارهم، والتقويض لغمارهم، والإبادة لفارسهم وراجلهم، وإرشاد السيوف والسهام إلى مقاتلهم، وتطهير الأرض منهم بدمائهم، والإحاطة بهم عن أيمانهم وشمائلهم، ومن أمامهم وورائهم؛ فابتهجنا بذلك الابتهاج الذي يوجبه التوحيد، وانتهى بنا السرور إلى الحد الذي ما عليه مزيد. على أننا كنا نود أن يكون ذلك بصفاحنا وأسنتنا، وأن يثبته الله لنا في صحيفتنا؛ وإنا لراجون من نعم الله عندنا، وإحسانه إلينا كما عودنا، أن يكون من بقي من المذكورين بنا مستأصلاً، ويكون أجر هذه الخاتمة لنا حاصلاً. وقد عزم الله لنا عند وقوفنا على كتابه، بما خرج به أمرنا إلى جميع من بأعمال الدولة الحافظية خلد الله ملكها، بعيدها ودانيها، وقصيها ونائيها، من العساكر المظفرة المؤيدة، وقبائل العربان المستخلصة، وكافة الطوائف على اختلاف أنواعها، وتباين أجناسها، وتفاوت منازلها، وتغاير مراتبها، بأن ينفروا خفافاً وثقالاً، وركباناً ورجالاً، بقوتهم ونجدتهم، ووفور عددهم وعدتهم، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم، وبالعزمات الماضية، والضمائر الخالصة، والنيات المستبقية، والعقائد المتفقة، وفسحنا للمتطوعة أن يختلطوا بالمرتزقة، وأمرناهم بمسيرهم متتابعين، وتوجههم مترادفين؛ وأن يكون كتائب متناصرة، وجحافل متواترة؛ وعساكر متوالية، لا ترى الأرض منها إلى العدو خالية؛ ومن الله نطلب مادة العون والإسعاد، ونسأله توفيقاً لما يقض بتضاعف أجرنا في العاجلة والمعاد. وقد شكرنا الأمير الأسفهسلار كون ما أنهاه سبباً لهذه الغنيمة المتوقعة من فضل الله وإحسانه، والنصر لدينه التي نؤملها من جزيل كرمه وامتنانه، وأضفنا ما اقتضته مطالعته من جذلنا وغبطتنا، إلى المستقر عندنا من محبته لنا، وإيثاره الذي لا يحتاج فيه إلا زيادة على معرفتنا؛ فليعلم هذا وليعمل به. إن شاء الله تعالى.
وكما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى صاحب مكة المشرفة، جواباً عن كتاب ورد منه عليه في معنى وصول غلال بعث بها إلى مكة ما صورته:
وصل كتابك، أيها الشريف معرباً عن المشايعة الشائعة أنباؤها، والمخالصة الخالصة أسرارها الوافرة أنصباؤها، وحسان الخلال، التي اقتسم طرفي الحمد إعادتها وإبداؤها، ومكرمات الآل، التي تساوى في اقتناء المجد أبناؤها؛ وفضائل الإفضال، التي لا تخف على غير أهل العباء صلوات الله عليهم أعباؤها. ونشر كتابك من محاسنك ما انطوى، ووردنا منه منهلاً أروى وارده واتروى؛ ووقفنا منه على أثر فضل اشتمل على عين الكرم واحتوى، ووفقنا وإياه من الحمد ما لا نخلفه نحن ولا هو مكاناً سوى؛ فاقتضانا مزيداً في رفع قدره، واختصاصه من الإنعام بكل غريب الموقع ندره، وأصرنا كتابه إلى مستقر كاتبه من قلب الود وصدره؛ وكيف لا يكون ذلك وقد أشمخرت لبيته الأنساب، وخرت الأنصاب، وسجدت الرقاب، وردت له بعد ما توارت بالحجاب، وشهد بفضل توقيعهم الحرب وبفضل ليلهم المحراب.
فأما ما أشار إليه من الشكر على ما سير من الغلات التي كان الوعد بها علينا نذراً، وروحنا بإرسالها قلباً وشرحنا بتسييرها صدراً؛ وأنها حلت ربقة الجدب وفكتها، وجلت هبوة القحط وكفتها؛ وهونت مصاعب المساغب، وخلفت سواحب السحائب، وأطفأت- ولله الحمد- بوار النوائب، فقد سررنا بحسنتنا جعله الله ممن تسره الحسنة، وقد نبهنا من سنتنا لأن نستقبل بالحمد لولي السنة، وقد قوى النية وقومها، واستزاد لهم بلسان الشكر الفصيح، وتنأول لهم بباع التلطف الفسيح، وألقح لهم سحائب محله منها محل ملقحها من الريح؛ واقتضى ما يعرضه أن خرج الأمر بأن يضاعف المحمول في كل عام، ولا يخص به خاص دون عام؛ وأمرنا أن يوفر جلب الجلاب، وتوقر ظهور الركاب، ليجمع للحرم الشريف بين بر البر والبحر، وبين حمل البطن والظهر؛ فتظل السنة ودوداً ولوداً، ويشاهد المحل الشريف وقد نأى عنه المحل شريداً؛ وتحط القلوع عما يحط عنه أمثالها من السحائب، وتستريح الأنفس اللواغب، فأما ما ألقاه إلى رسوله، فقد أسمع ما أسنده إليه، وأعيد بما يعيده عليه؛ وقد تكاثرت بولاء الشريف الأشهاد، فغني عن الاستشهاد، وأغنته الحظوة بجميل رأينا عما نأى أخذه لشفعة العطاء بل لشفاعة الاجتهاد، إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب وهي على النحو المتقدم وربما صدر بلفظ: قد ونحوها:
كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن بعض ملوكهم في جواب كتاب ورد عليه بطاعة بلد.
قد وصل كتابكم- وصل الله معونتكم وكلاءتكم- تذكرون ما تقرر عندكم هنالك من أحوال تلك الجهة، وباشرتموه من أمورها؛ وأنتم عندنا بمحل الصدق، ومكان الإيثار للحق. وقد رسمنا لكم أن تثبتوا في أهل تلكم الجهات كلها حميد الرأي فيهم، وحسن القبول لإنابتهم، وقصد الرفق بخاصتهم وعامتهم؛ وأنا قد تقبلنا أوبتهم، واغتفرنا زلتهم؛ وأولئكم المتشبثون بسبب الذمام، عرفوهم أنكم رغبتم في شمول الصفح عنهم، والإقالة لما كان منهم؛ فأسعفنا رغبتكم فيهم، وأدخلناهم في العفو مع غيرهم، وبذلنا لهم الأمان، وأغضينا عن جميع ما كان؛ فعرفوهم بهذا كله، وأخبرهم عنا بإعطاء التأمين لجميعهم وبذله؛ وإن كان أطيب لنفوسهم أن يصلهم مكتوب بذلك عرفتمونا، ووجهناه إليكم. وأقيموا أنتم هنالكم أياماً خلال ما يصلكم من متثاقل الأحوال ما تطالعون به، وتخاطبون بما تعتمدونه إن شاء الله تعالى. أدام الله كرامتكم.
أشرتم في خطابكم إلى أن عندكم من تلك الأحوال ما تذكرونه مشافهة، وربما يكون ذلك أمداً يبنى عليه نظر، أو يتوجه بحسبه عمل؛ فمن الجيد أن تكتبوا بشرحه، إن شاء الله تعالى والسلام.

.الضرب الثاني: الأجوبة الواردة على الملوك:

وهي على نحو ما تقدم في الأجوبة الصادرة عن الملوك من الابتداء بلفظ: وصل إلا في الخطاب، فإن المكتوب عنه يقع الخطاب منه بـ الخادم أو المملوك أو العبد. ويخاطب الملك المكتوب إليه بمولانا أو مولانا الملك أو نحو ذلك؛ وربما كتب بدل وصل: ورد.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في جواب كتاب ورد عليه مخبراً فيه بالحركة للقاء العدو ما صورته:
ورد على المملوك- أدام الله أيام المجلس العالي الملكي الناصري، ونصره على أعدائه، وملكه أرضه بعدل حكم سمائه، ولا أخلى من نعمتي خيره ونظره قلوب وعيون أوليائه، وأعز الإسلام ورفع عن أهله البلوى بلوائه. الكتب القديمة التي تسر الناظرين من شعارها الأصفر، وتبشر الأولياء إن كانوا غائبين مع الغيب بأن حظهم حاضر مع الحضر؛ وقد كانت الفترة قد طالت أيامها، واستطالت آلامها، والطرقات قد سبق إلى الأنفس إبهامها.
فالحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وأولى من النعمة ما اشترى الحمد ثمن؛ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ووعد الله سبحانه منتظر، إذ يقول في كتابه: {وعد الله الذي آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن اختيار الله للمؤمن خير من اختياره، وإن مواضع الأمل للعبد خير منها مواقع أقضية الله وأقداره». فقد كانت حركة احتاجت إليها البلاد التي انفصل عنها، والبلاد التي قدم عليها. أما المصرية منها فبكونها على عدة من نجدته آجلاً، وأما الشامية فبكونها على ثقة من نصره عاجلاً؛ فقد تماسكت من المسلمين الأرماق، وقد انقطعت من المشركين الأعناق:
تهاب بك البلاد تحل فيها ** ولولا الليث ما هيب العرين!

وعرض المملوك ما وصل إليه من مكاتبات المولى على العلم العادلي وأدركها تحصيلاً، وأحاط بها جملة وتفصيلاً؛ والمولى- خلد الله ملكه- فكل ما أشار إليه من عزيمة أبداها، ونية أمضاها، فهو الصواب الذي أوضح الله له مسالكه، والتوفيق الذي قرب الله عليه مداركه؛ ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، ومن استخاره بين له الرشد من الغي؛ والله تعالى يجعل له من كل حادثة نخوة، ويكتب أجره في كل حركة ونفس وخطوة. إن شاء الله تعالى.

.القسم الثاني المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في الابتداءات:

وفيه ثلاث جمل:
الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق من بني بويه فمن بعدهم:
وقد كان الرسم فيها أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابي أو كتابنا إلى فلان، ويخاطب المكتوب إليه بملك الروم أو نحو ذلك، ويختم بقوله: فإن رأى ذلك فعل إن شاء الله تعالى.
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن القائد أبي الفوارس ختور التركي المعزي، إلى وردس بن قنبر المعروف بعسقلاروس.
كتابي إلى ملك الروم الفاضل، الجليل، النبيل، الخطير، أدام الله كفايته وسلامته، ونعمته وسعادته، وعافيته وحراسته. من الحضرة الجليلة بمدينة السلام لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلثمائة، وهو اليوم التاسع من أدار، عن شمول السلامة، وعموم الاستقامة؛ وصلاح حالي في ظل الدولة المنصورة. والحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً.
ووصل كتاب مولانا ملك الروم الفاضل الجليل الصادر عن العكسر بمرج لارضة بتاريخ التاسع من حزيران، وفهمته وجل عندي موقعه، وعظم في نفسي خطره؛ وحمدت الله على ما شهد به من انتظام أحواله، واطراد أموره؛ وسألته أن يتمم النعمة عليه، ويزيد فيها لديه، ويواصل إحسانه إليه، ويطيل مدته، في أتم رشد وهداية، وأرفع قدم ومنزلة، وأعلى خطر ورتبة، بمنه وطوله، وجوده ومجده.
فأما ما ذكره سيدنا الملك الجليل: من مقامه على العهد، وافتقاره إلى الميل والود، فذاك يوجب فضله البارع، وكرمه الشائع، وخلال الخير التي أهله الله لها، وخصه الله بها، وبالله أحلف إنني ما خلوت منذ افترقنا من مطالعة أخباره، وتتبع آثاره، واستعلام مجاري شؤونه، والسرور بكل ما تم له ووصل إليه؛ حتى كأنني حاضر له، وضارب بأوفر سهم فيه، بل مخصوص بجميعه. والله يجريه على أحسن ما أولاه وعوده، ولا يخليه من الصنع الجميل فيما أعطاه وقلده، برحمته.
وكنت قبل ذلك عند ورود رسولي في الدفعة الأولى على غاية الغم وشغل القلب بسبب الغدر الذي لحقه من عدوه الذي أظفر الله به؛ وأنهيت ذلك في وقته إلى الملك السعيد الماضي، شرف الدولة، وزين الملة؛ رضي الله عنه. فاشتغل قلبه- رحمه الله- به، وعمل على إنفاذ العساكر لنصرته؛ ثم أتى من قضاء الله في أمره ما قد عرفه.
ولما انتصب في المملكة مولانا السيد بهاء الدولة، وضياء الملة- أطال الله بقاءه- شرحت له ما جرى قديماً على سياقته، ومهدت الحال عنده، ووجدته- أدام الله سلطانه- معتقداً لسيدنا ملك الروم الجليل- أدام الله عزه- أفضل اعتقاد، وسر بما انتهت إليه أموره، وتنجزت الكتب إلى موصلها الرسول حفظه الله، وسمعت منه ما كان تحمله عن سيدنا ملك الروم أدام الله تأييده، وأخرجت معه صاحبي أبا القاسم الحسين بن القاسم، وحملتهما جميعاً ما ينهيانه إليه في سائر الأمور التي يرى عرضها ويحتاج إلى معرفتها.
وأنا أسأل سيدنا الملك الجليل- أدام الله بركته- تعجيل رده إلي، فإنه ثقتي، ومن أسكن إليه في أموري؛ وأن يتفضل ويكلفني حوائجه ومهماته، وأمره ونهيه لأقوم في ذلك بالحق الواجب له، إن رأي سيدنا ملك الروم الفاضل الجليل، الخطير النبيل، أن يعتمدني من ذلك بما يتضاعف عليه شكري، وتجل النعمة فيه عندي، ويشاكل الحال بينه وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم:
والذي وقفت عليه من ذلك أسلوب واحد: وهو الابتداء بـ أما بعد والخطاب فيه بالملك، والاختتام بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بردويل أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه، معزياً له في أبيه ومهنئاً له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته: أما بعد- خص الله الملك المعظم حافظ بيت المقدس بالجد الصاعد، والسعد الساعد؛ والحظ الزائد، والتوفيق الوارد؛ وهنأه من ملك قومه ما ورثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه؛ فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق، والنعي الذي وددنا أن قائله غير صادق، بالملك العادل الأعز الذي لقاه الله خير ما لقى مثله، وبلغ الأرض سعادته كما بلغه محله؛ معز بما يجب فيه العزاء، ومتأسف لفقده الذي عظمت به الأرزاء؛ إلا أن الله سبحانه قد هون الحادث، بأن جعل ولده الوارث؛ وأنسى المصاب، بأن حفظ به النصاب، ووهبه النعمتين: الملك والشباب؛ فهنيئاً له ما حاز، وسقياً لقبر والده الذي حق له الفداء لو جاز؛ ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نالنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلو مكانه؛ وكيف لا يستوحش رب الدار لفرقة جيرانه. وقد استفتحنا الملك بكتابنا وارتيادنا، وودنا الذي هو ميراثه عن والده من ودادنا؛ فليلق التحية بمثلها، وليأت الحسنة ليكون من أهلها؛ وليعلم أنا له كما كنا لأبيه: مودة صافية، وعقيدة وافية، ومحبة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت في الدنيا بالموافاة؛ مع ما في الدين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق الذي لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمل؛ والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظن الصديق.
الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب:
والرسم فيه أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابنا والمخاطبة بنون الجمع عن المكتوب عنه وميم الجمع عن المكتوب إليه، والاختتام بالسلام مع الدعاء بما يليق.
كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن أبي جميل زيان، إلى ملك قشتالة من بلاد الأندلس في مراودة الصلح:
كتابنا إليكم- أسعدكم الله برضاه، وأدام عزتكم وكرامتكم بتقواه- من مرسية، ونحن نحمد الله الذي لا شيء كمثله، ونلجأ إليه في أمرنا كله، ونسأله أن يوزعنا شكر إحسانه وفضله- وعندنا لجنابكم المرفع تكرمة نستوفيها، ومبرة ننتهي إلى الغاية فيها، وعلمنا بمحلكم الشهير، وكتابكم الخطير، يستدعي الزيادة من ذلكم ويقتضيها؛ وقد كان من فضل الله المعتاد، وجميل صنعه في انتظام الكلمة في هذه البلاد، ما اكتنفته العصمة، وكملت به النعمة والمنة؛ وتيسر بمعونة الله فتح أقر العيون، ورضيه الإسلام والمسلمون، وكانت مطالعتكم به مما آثرنا تقديمه، ورأينا أن نحفظ من الأسباب المرعية على التفصيل والجملة حديثه وقديمه. وحين ترجحت مخاطبتكم من هذا المكان، ومفاوضتكم في هذا الشان، رأينا من تكملة المبرة، وتوفية العناية البرة، أن ننفذ إليكم من يشافهكم في هذا المعنى، ويذكر من قصدنا ما نولع به ونعنى، وهو فلان في ذلك السلام ومحاولتها، ما يتأدى من قبله على الكمال بحول الله تعالى. وإن رأيتم إذا انصرف من عندكم، أن توجهوا زيادة إلى ما تلقونه إليه من رجالكم وخاصتكم، في معنى هذا العهد وإحكامه، ومحاولته وإبرامه، فعلتم من ذلك ما نرقب أثره، ونصرف إليه من الشكر أوفاه وأوفره، إن شاء الله تعالى: وهو الموفق لا رب سواه، والسلام الأتم عليكم كثيراً.